ب. الجمع الأخير للقرآن والإنجيل
القرآن الذي جمعه زيد بن ثابت ولجنته
في القسم السابق رأينا كيف تجهّزت النسخة الأولى من القرآن في عهد الخليفة الأول أبي بكر وكانت هـناك نسخ أخرى من القرآن مع بعض الصحابة، حسب ما سمعوه من محمد، أو بنَسْخه ممن كانت لديه نسخة منه وكان عبد الله بن مسعود واحداً من أشهرهم، وكان خادماً شخصياً للنبي وحضر بدراً وأُحداً، وكان يقول إنه حفظ سبعين سورة من فم النبي مباشرة، ويقول الحديث إنه كان من أول من علّموا الناس تلاوة القرآن ومعروف أن مصحف ابن مسعود كان يختلف في ترتيب سوره، ولم يكن يحتوي على (المعوَّذتين) (سورتي الفلق والناس).
وكان هـناك مصحف آخر مع أُبيّ بن كعب، وهو أنصاري كان كاتب محمد في المدينة وكان مصحف أُبيّ يحتوي على سورتين غير موجودتين في مصحف عثمان هـما سورتا (الخلع والحفد) وآية عن طمع الإنسان أوردها بعد آية 24 من سورة يونس وكان مصحف أُبيّ مستخدَماً في سوريا قبل ظهور مصحف عثمان وكان أُبيّ أحد مساعدي زيد في تجهيز مصحف عثمان.
وبالإضافة إلى ابن مسعود وأُبيّ، يذكر التاريخ الإسلامي والحديث وجود مصحف علي بن أبي طالب مرتباً حسب ترتيب نزول الآيات، فكان يبدأ بسورة العلق (رقمها 96) ويذكر السيوطي في (الإتقان) مصحف ابن عباس الذي كان يحتوي على سورتي الخلع والحفد، كما يذكر مصحف أبي موسى المستعمل في البصرة والذي كان يحتوي على سورتي الخلع والحفد والآية التي تتحدث عن طمع الإنسان (راجع المصاحف للسِّجستاني، باب اختلاف المصاحف).
جاء في صحيح البخاري (جزء 6 ص 226 طبعة دار الشعب بالقاهرة، وفي (كتاب المصاحف) للسجستاني طبعة دار الكتب العلمية، بيروت، 1985، وفي مقدمة تفسير الطبري، طبعة دار الفكر، بيروت 1984 ص 26) أن حذيفة بن اليمان قدِم على عثمان بن عفان، وكان يغزو مع أهل العراق قبل أرمينية وأذربيجان في غزوهم ذلك الفوج ممن اجتمع من أهل العراق وأهل الشام، ويتنازعون في القرآن حتى سمع حذيفة من اختلافهم ما ذعره.
فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين، أدرك هـذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى في الكتب وقال: غزوت أرمينية فحضرها أهل العراق وأهل الشام، فإذا أهل الشام يقرأون بقراءة أُبيّ بن كعب، فيأتون بما لم يسمع أهل العراق، فتكفّرهم أهل العراق وإذا أهل العراق يقرأون بقراءة ابن مسعود، فيأتون بما لم يسمع أهل الشام، فتكفّرهم أهل الشام).
ثم يقول البخاري: (فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان،فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هـشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلغة قريش، فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل به فذاك زمان حُرقت المصاحف بالعراق بالنار).
وجاء في صحيح البخاري (جزء 6 ص 226):
(قال ابن شهاب: وأخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، سمع زيد بن ثابت قال: فقدتُ آيةً من الأحزاب حين نسخنا المصحف، فقد كنت أسمع رسول الله يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه (سورة الأحزاب 23) فألحقناها في سورتها بالمصحف).
والآن
وقد رأينا أسلوب زيد بن ثابت في جمع سور القرآن، تعالوا نر كيف جُمع الإنجيل،
وسنركز على إنجيل لوقا لأننا نملك معلومات أوفر على أسلوبه في الجمع.
تسجيل أحداث الإنجيل
خلال السنوات السبع والعشرين بعد صعود المسيح كان الرسل يبنون مواعظهم على: (أ) النبوات التي وردت عن السيد المسيح في توراة موسى ومزامير داود وكتابات سائر أنبياء اليهود، ثم: (ب) شهادات الرسل الذين قالوا بتحقيق تلك النبوات.
وبمرور الوقت أرشد الروح القدس البشيرين الأربعة ليسجلوا كتابةً أحداث حياة المسيح وتعاليمه ولكنهم لم يسجلوا تاريخ عملهم (كما هـو الأمر مع القرآن) ولذلك لا نعلم بالتحديد متى بدأوا كتابتها ولقد ذكرنا بابياس الذي جمع الأحاديث المسيحية، وقال إن البشير متّى كان أول من سجّل أقوال المسيح، وإن البشير مرقس سجّل ما قاله له الرسول بطرس، وإن البشير لوقا كان رفيق الرسول بولس، وإن البشير يوحنا كتب بشارته في أفسس بعد أن تقدّم به العمر.
ويعاوننا التاريخ المسيحي بتقديم تواريخ تقريبية للكتابة ويذكر المؤرخ الروماني تاسيتوس المسيحيين في مجال كتابته عن حريق روما أثناء حكم الامبراطور نيرون عام 64م فيقول:
(لا تقدر كل النجدة التي يقدمها الإنسان، وكل العطايا التي يسبغها الحاكم، وكل الأضاحي المقدَّمة للآلهة أن تنجي نيرون من العار الذي لصق به نتيجة أمره بإحراق روما ولكي يُسكِت الإشاعة اتَّهم باطلاً وعاقب بعذابات شديدة الجماعة المعروفة بالمسيحيين المكروهين بسبب جرائمهم المنكرة والمسيح الذي يحمل المسيحيون اسمه كان قد قُتل في عهد بيلاطس البنطي، والي اليهودية أثناء حكم طيباريوس ولكن خرافته انتشرت من جديد، ليس في اليهودية وحدها حيث نشأ هـذا الشر، بل وفي روما أيضاً) (31)
ومن كتابة تاسيتوس يتضح أن الرومان صدّقوا أن المسيح مات في عهد بيلاطس كما يقول الإنجيل، كما يتضح الاضطهاد القاسي الذي حلّ بالمسيحيين ويقول التقليد المسيحي إن الرسولين بطرس وبولس قُتلا في هـذا الاضطهاد ولما لم يذكر البشير لوقا خبر موتهما في نهاية سفر الأعمال، فقد قال بعض علماء المسيحية إن سفر الأعمال لا بد كُتب قبل حدوث ذلك الاضطهاد، أثناء السنتين اللتين قضاهما لوقا مع بولس في روما ولو صدق هـذا فإن سفر الأعمال يكون قد كُتب عام 62 أو 63م، وتكون بشارة لوقا قد كُتبت نحو عام 60م أثناء انتظار لوقا محاكمة بولس في فلسطين.
كفاءة لوقا كجامع للمعلومات
يقول الرسول بولس عن لوقا إنه (الطبيب الحبيب) (كولوسي 4:14) فهذه الشهادة، بالإضافة إلى الأسلوب الراقي لكتابة لوقا باليونانية، يعلنان عن درجة ثقافة لوقا العالية وقد صحب لوقا بولسَ في مناسبتين على الأقل: مرة لفترة قصيرة من ترواس في تركيا إلى فيلبي في اليونان (أعمال 16:10-40) ومرة ثانية لعدة سنوات سافر خلالها مع الرسول بولس من فيلبي إلى أورشليم، وانتظر مع بولس سنتين مدة سجنه في أورشليم، ثم قضى معه سنتين أخريين أثناء سجنه في روما (أعمال 20:6-28:31) وأثناء وجود لوقا مع بولس في فلسطين سنحت له الفرصة أن يلتقي بكثيرين ممن عرفوا المسيح، مثل يعقوب (أخي الرب) غير الشقيق ويصف لوقا هـذا اللقاء بالقول: (وَفِي الْغَدِ دَخَلَ بُولُسُ مَعَنَا إِلَى يَعْقُوبَ، وَحَضَرَ جَمِيعُ الْمَشَايِخِ) (أعمال 21:18) ولقد كان يعقوب هـذا يعلم كل شيء عن ميلاد المسيح العذراوي، وكيف عمل مع يوسف في النجارة وينفرد لوقا بذكر المناقشة التي دارت بين المسيح وشيوخ اليهود في أورشليم لما كان المسيح في الثانية عشرة من العمر (لوقا 2:41-50) وهي حقيقة يسهل عليه أن يعرفها من يعقوب هـذا.
ونقرأ في 1كورنثوس 15:7 أن المسيح بعد قيامته ظهر ليعقوب، ولا بد أن لوقا سأل يعقوب عن هـذا الظهور وما قاله المسيح له أثناءه.
وبالإضافة إلى شهادة يعقوب، فربما كانت العذراء مريم حية، ويكون أن لوقا سألها شخصياً عن الميلاد العذراوي، لأنه الوحيد الذي أورد كلمات الملاك جبرائيل لها: (اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضاً الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللّهِ) (لوقا 1:35 و36)
ولا بد أن لوقا سأل مئات الأشخاص الذين رأوا معجزات المسيح، أثناء إقامته مدة السنتين اللتين كان بولس فيهما مسجوناً في فلسطين ولا بد أنه التقى ببعض (الخمسمئة أخ) الذين ظهر المسيح لهم بعد قيامته، دفعةً واحدة (1 كورنثوس 15:6)
كما أن البشير لوقا كان يعرف البشير مرقس لأنهما كانا مع بولس في وقت واحد ويقول بولس في نهاية رسالته إلى كنيسة كولوسي: (يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ أَرِسْتَرْخُسُ الْمَأْسُورُ مَعِي، وَمَرْقُسُ ابْنُ أُخْتِ بَرْنَابَا... يُسَلِّمُ عَلَيْكُمْ لُوقَا الطَّبِيبُ الْحَبِيبُ). كولوسي 4:10 و14
ولقد رأينا في حديث بابياس أن البشير مرقس كتب بشارته عن فم بطرس وبمقارنة بشارتي مرقس ولوقا نكتشف أن لوقا لا بد قد اطّلع على بشارة مرقس واتَّخذها كأحد مراجعه وربما حصل على بشارة مرقس من كاتبها مباشرة أثناء سجن بولس وكل هـذه شواهدٌ تبرهن أن لوقا تحقَّق من كل ما حصل عليه من معرفة بأقوال المسيح وأعماله من شهود عدول، كما فعل زيد بن ثابت ورفاقه في تحقيق صحّة آيات القرآن
أسلوب لوقا في جمع مادة بشارته.
وما حدث مع القرآن حدث مع الإنجيل، فقد جمع كثيرون أقوال المسيح وأعماله وهذا ما يقوله البشير لوقا في فاتحة بشارته: (إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الْأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا، كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا الَّذِينَ كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّاماً لِلْكَلِمَةِ، رَأَيْتُ أَنَا أَيْضاً إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْأَوَّلِ بِتَدْقِيقٍ، أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي إِلَيْكَ أَيُّهَا الْعَزِيزُ ثَاوُفِيلُسُ، لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلَامِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ) (لوقا 1:1-4)
يبدأ لوقا بالقول إن كثيرين جمعوا أقوال المسيح ووصفوا معجزاته، كما سمعوها من معاينيها ومن خدّام الكلمة و(الكلمة) هـنا تشير إلى المسيح (كلمة الله) ويقول لوقا إنه تتبَّع كل شيء بالتدقيق (على فم شاهدين على الأقل كما تأمر التثنية 19:15 في عدد الشهود) ثم سجَّل أخباره المفرحة لحاكم اسمه (ثاوفيلس) والآن دعونا نلقِ نظرة سريعة على سائر البشائر:
بشارة مرقس
كان مرقس أحد سكان أورشليم، ولا بد عرف بطرس وسائر الرسل منذ حداثته ثم كان مع بطرس في روما، لأن بطرس يقول: (تُسَلِّمُ عَلَيْكُمُ (الكنيسة) الَّتِي فِي بَابِلَ (روما) الْمُخْتَارَةُ مَعَكُمْ، وَمَرْقُسُ ابْنِي) (1بطرس 5:13) وهذه الآية تؤكد وجود مرقس مع بطرس واستقاءه الحقائق منه وربما روى بطرس البشارة بالأرامية وكتبها مرقس (ككاتبٍ له) باليونانية، ويقول العارفون بالأرامية واليونانية:
(توجد أدلة غير قليلة في بشارة مرقس على أن المادة الأصلية كانت أولاً بالأرامية، لأن لغة البشارة اليونانية، في بعض الأماكن، تحتفظ بوضوح بالتعبيرات الأرامية) (ف ف بروس في كتابه (وثائق العهد الجديد، هـل هـي صحيحة؟)) (32)
ويقول التقليد المسيحي إن بطرس استُشهد أثناء اضطهاد الإمبراطور نيرون للمسيحيين، والذي بدأ عام 64م ويقترح د بوكاي أن مرقس ربما سجّل ما حفظته ذاكرته بعد موت بطرس، وذلك عام 70م ولكن لما كان الأغلب أن لوقا كتب بشارته عام 60م، وقد اتَّخذ من بشارة مرقس مرجعاً له، فإن معظم علماء الكتاب المقدس المحافظين، مع آباء الكنيسة الأوَّلين (أمثال أوريجانوس وإيرينيموس وأكليمندس الإسكندري) يعتقدون أن مرقس كتب بشارته عام 50م
وكما سنرى، فإن اختيار د بوكاي لعام 70م موعداً لكتابة بشارة مرقس لا يعتمد على دليل من داخل البشارة أو من خارجها، ولكنه يتبع (افتراضاً أساسياً) قام عليه (نقد الصيغة اللغوية) الذي يفترض عدم وجود معجزات ولا وحي.
بشارة متّى
لا نعرف تاريخاً محدداً لكتابة بشارة متّى وكما سنرى، فإن الرسائل والكتابات المسيحية الأولى التي لدينا قد اقتبست منها ويقول بابياس إن متّى كان أول من سجّل تعاليم المسيح.
ولقد كان متى جابي ضرائب، استجاب لدعوة المسيح له ليتبعه وكانت وظيفته تتطلّب في حاملها أن يعرف اللاتينية والأرامية ليسجل الضرائب المطلوبة، وربما يعرف اليونانية، لغة التجارة في وقته وهذا يعني أنه يملك الإمكانيات التي تؤهّله لتسجيل أقوال المسيح وقال بابياس إنه سجل تعاليم المسيح باللغة العبرية (الأرامية).
ولقد تبع متّى المسيح من بلد لآخر يصغي إلى تعاليمه ويسجلها، دون أن يحدد تاريخ إلقاء تلك التعاليم (كما لم يسجل أحدٌ تاريخ نزول آيات القرآن) وتسجيل التاريخ لا يعنينا كثيراً، فليس مهمّاً أن نعرف أين ومتى قال المسيح (فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هـُوَ كَامِلٌ) (متى 5:48)
ثم جاء شخصٌ آخر فعل ما فعله لوقا، وجمع مجموعته من أعمال المسيح وأقواله، فأخذ من بشارة مرقس المنقولة عن بطرس، ثم ترجم ما كتبه متّى إلى اليونانية، وأضاف إليه ما أخذه عن مرقس وكان أشهر ما قدَّمه (الموعظة على الجبل) (متى 5-7) التي يتحدث المسيح فيها عن الصلاة والصوم والطلاق والزنا بالقلب، وغير ذلك من المواقف الروحية القلبية، مع أصعب ما أمر المسيح به، وهو قوله: (أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ بَارِكُوا لَاعِنِيكُمْ أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لِأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ، لِكَيْ تَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ) (متى 5:44 و45) ولقد نفَّذ المسيح هـذا الأمر لما صلى من أجل أعدائه الذين صلبوه وقال: (يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ) (لوقا 23:34)
وواضح من الأمر (لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات) أنه يتحدث عن بنوية روحية معنوية، لا جسدية حرفية.
وتنفرد بشارة متّى بذكر بعض أحداث حياة المسيح، كزيارة الحكماء الذين جاءوا من المشرق، وسجدوا للمسيح الطفل في المذود، وذلك لأن متى كتب بشارته لليهود الذين يعرفون النبوات التي جاءت في توراتهم عن قدوم حكماء وسجودهم للمسيح، في سفر إشعياء 60:3
بشارة يوحنا
يُقال إن يوحنا كتب بشارته في مرحلة متأخرة من عمره بين عامي 90 و95م، ولكن لا توجد في بشارته أية إشارة إلى تاريخ كتابتها وقد بدأ علماء الكتاب أخيراً يُرجِعون زمن كتابتها إلى تاريخ مبكر عن ذلك وقال وليم أُلبرايت (وهو من أشهر رجال الحفريات) في كتابه (اكتشافات حديثة في بلاد الكتاب المقدس): (يمكن أن نقول بتأكيد إنه لا يوجد أساس قوي لتأريخ كتابة أي سفر من العهد الجديد بعد عام 80م) (33)
لماذا وضع د بوكاي هـذه التواريخ؟
اقتبس د بوكاي كتابات بعض علماء العهد الجديد، واختار التواريخ التالية للبشارات الأربع: متّى: 80م مرقس: 70م لوقا: 70-90م يوحنا: في التسعينات وتلاحظ أن كل هـذه التواريخ جاءت بعد عام 70م لماذا؟ لأن أورشليم أُخرِبت عام 70م، ويسجل متى ومرقس ولوقا نبوَّة المسيح بخرابها وخراب هـيكلها يسجل مرقس: (وَفِيمَا هـُوَ (المسيح) خَارِجٌ مِنَ الْهَيْكَلِ قَالَ لَهُ وَاحِدٌ مِنْ تَلَامِيذِهِ: (يَا مُعَلِّمُ، انْظُرْ مَا هـذِهِ الْحِجَارَةُ وَهذِهِ الْأَبْنِيَةُ؟) فَأَجَابَ يَسُوعُ: (أَتَنْظُرُ هـذِهِ الْأَبْنِيَةَ الْعَظِيمَةَ؟ لَا يُتْرَكُ حَجَرٌ عَلَى حَجَرٍ لَا يُنْقَضُ) (مرقس 13:1 و2)
وقد اقتبس د بوكاي أقوال علماء العهد الجديد الذين يؤمنون بنظرية الوثائق ونقد الصيغة الأدبية، اللذين درسناهما في فصلي 2 و3 من هـذا الجزء وعرف أن أصحاب هـاتين الفكرتين لا يؤمنون بالوحي ولا بالمعجزات ولذلك وضعوا تاريخ كتابة البشائر بعد عام 70م فتكون أورشليم قد أُخرِبت قبل الكتابة، مما ينفي أن البشائر حملت النبوات المسبَّقة بخراب أورشليم!
ذكرنا أن البشائر لا تسجل تاريخ كتابتها، فربما كُتبت في السنوات العشر الأولى بعد موت المسيح، وقد قال د جون روبنسون في كتابه (إعادة تأريخ العهد الجديد) الذي نشره في لندن عام 1976 إن كل كتب العهد الجديد كُتبت قبل عام 70م (34)
وقد أعطانا د بوكاي رسماً بيانياً (ص 97) يبرهن أن للبشر يداً في تحريف الكتاب المقدس ويقدم الرسم البياني التالي جمع مادة البشائر كما وصفنا في هـذه الصفحات:
رسم بياني - 1 جمع البشائر (قريباًً سنضيفه باللغة العربية)
واضح من هـذا الرسم أني أوافق على تأريخ د بوكاي وحتى لو اتفقنا مع تواريخه، فإن كل علماء العهد الجديد يؤمنون أن كثيراً من أسفار العهد الجديد كُتبت بين سنة 52 و70م، كما يتفقون أن عام 95م شهد كتابة العهد الجديد كله، ويتفقون أن كل من كتبوا العهد الجديد كانوا مؤمنين ب (العقيدة الإنجيلية) وأضع التنبير على التاريخ 52-70م لأنه يشكل مدة 26-44 سنة بعد بدء خدمة المسيح العلنية ونحن نذكر أن عثمان أرسل مصحفه للآفاق نحو عام 26 هـ، أي بعد نحو 40 سنة من بداية دعوة محمد لقومه وفي هـذه نرى التشابه بين تأريخ العهد الجديد وتأريخ القرآن.
ويواجهنا السؤال مرة أخرى: (ولكن كيف تعرف؟)
ونجاوب: نؤمن أن التلاميذ كانوا أبراراً صالحين يريدون معرفة الحق السماوي وأن يطيعوه ويقول القرآن إنه أُوحي إليهم، وإنهم أنصار الله كما نؤمن أنه كان هـناك شهود عيان كثيرون لمعجزات المسيح وتعاليمه، يمكنهم أن يشهدوا للحق ويُزهِقون الباطل ونؤمن أن الروح القدس أرشدهم وألهمهم ليكتبوا الصواب صحيح أننا لا نملك النسخة الأصلية، ولكننا نؤمن أن بين أيدينا كتاب الله: التوراة والإنجيل.
احتياطات عثمان لحفظ وحدة نصوص القرآن
ذكرنا في هـذا القسم بعض الأحاديث عن كيفية جمع القرآن بإشراف زيد بن ثابت، والتي ورد في أحدها: (حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمرهم أن يحرقوا كل مصحف يخالف المصحف الذي أرسل به فذاك زمان حُرقت المصاحف بالعراق بالنار)
لقد قرر عثمان ألا يكون هـناك اختلاف في القرآن، فأحرق كل النسخ ما عدا نسخة زيد أحرق نسختي علي وأُبيّ بن كعب وروى السِّجستاني أن بعض العراقيين طلبوا من ابن أُبي أن يريهم مصحف أبيه، فقال لهم إن عثمان (قبضه) وقد أمر عثمانُ ابنَ مسعود في العراق أن يحرق نسخته، ولكن ابن مسعود رفض ذلك ولا بد أنها أُبيدت بعد موته ولو أن عثمان لم يحرق المصاحف لبقيت أربع نسخ (أو أكثر) تشهد لصحّة القرآن، فهي شهادة شاهدِي عيان وسامعين بالآذان لما قاله محمد ولقد رأينا أن التوراة تطلب شاهدَين، ولكن عثمان لم يُبقِ إلا على شاهد واحد
وإني أسأل القارئ المسلم: على أي أساس تبرهن لنفسك (ودعْكَ من بَرْهَنة ذلك للمسيحيين) أنه لم يحدث تحريف لفظي لنصوص القرآن؟ وما هـو رأي د بوكاي في ما فعله عثمان؟ يكتب بوكاي في كتابه (الرجل) (ص 163) جملة صاغها بتدقيق: (نعلم أن الإسلام انتشر بسرعة كبيرة بعد موت محمد إلى مناطق بعيدة عن منشئه، بين أقوام لم تكن أغلبيتها تعرف العربية، فاتَّخذوا بعض الاحتياطات الخاصة حتى لا يعاني النص القرآني من هـذا التوسع)
ولو أن أحد المسيحيين كتب عبارة كهذه، أما كان د بوكاي يتَّهمه بالدفاع البهلواني وإخفاء الحقائق وخداع المؤمنين!
ويدين د بوكاي المسيحيين بقسوة ويتهمهم ب ( استبعاد لكثيرٍ من المؤلفات وربما كان ما حُذف مائة إنجيل) (ص 99) ولو أنه لا يقدم برهاناً على ما يقول ومعروف أنه لم تكن لدى المسيحيين الأولين أية سلطة سياسية حتى تولى قسطنطين الحكم عام 324م فلم يكن بإمكانهم أن يستبعدوا مؤلفات أو يحذفوا مئة إنجيل! صحيح أن بعض الكتب المقدسة المسيحية أُحرقت، ولكن هـذا كان تنفيذاً لأوامر غير المسيحيين، ففي عام 303م أمر الإمبراطور الوثني دقلديانوس بإحراق كتب المسيحيين القانونية والأبوكريفية، ولكن الكنيسة لم تفعل هـذا.
وفي عام 393م انعقد سنودس (مجلس كنسي أعلى) في هـِبو بشمال أفريقيا، أقرَّ قائمة بأسماء الكتب القانونية التي اعتبرها مكتوبة بإشراف الرسل ولما كنا نعلم أن المخطوطتين الفاتيكانية والسينائية قد كُتبتا قبل اجتماع هـذه السنودس ب 40-50 سنة، وكلاهما تحتويان على 27 سفراً، ندرك أن المسيحيين الأولين قد قبلوا هـذه الأسفار السبعة والعشرين نتيجة مناقشة حرة، في وقت لم تكن الكنيسة تملك فيه أية قوة سياسية تفرض رأيها!
وكان يجب على د بوكاي أن يذكر هـذا، خصوصاً وأنه أغفل ما فعله عثمان ومع ذلك فهو يقول: (ولا نستطيع إلا أن نأسف مع الأب بومار على اختفاء كمٍّ ضخمٍ من الكتب التي اعتبرَتها الكنيسة مزوَّرة) (ص 100) ومع ذلك فهو لا يأسف على إحراق عثمان نسخ المصاحف الأصلية، ولا يتكرم حتى بذكر ذلك، ويكتفي بذكر (احتياطات عثمان الخاصة)! لقد قال المسيح: (وَلِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ... وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ!) (متى 7:3 و4) إن ما ينتقد به د بوكاي الكتاب المقدس قشَّة بالنسبة لما فعله عثمان بنُسخ القرآن التي كانت بيد كبار الصحابة.
ونضيف أن العدد الوفير من (الأناجيل والرسائل) التي ذكرها د بوكاي (وسنشير إلى بعضها في قسم (د)) تورد كلها (العقيدة الإنجيلية) باستثناء إنجيل برنابا، الإنجيل المزيف الذي يناقض القرآن والأناجيل الصحيحة (انظر كتابنا (إنجيل برنابا إنجيل مزيف) لعوض سمعان)
مصير نسخة القرآن الأولى والفريدة.
ولكن ماذا كان مصير النسخة الأولى من القرآن التي جُمعت بأمر أبي بكر، والتي أعادها عثمان إلى حفصة بعد أن وعدها بذلك؟ يقول السجستاني: (أخبرني سالم بن عبد الله أن مروان (حاكم المدينة) كان يرسل إلى حفصة يسألها الصحف التي كُتب منها القرآن، فتأبى حفصة أن تعطيه إياها قال سالم:
فلما تُوفيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة إلى عبد الله بن عمر (شقيق حفصة) ليرسلنَّ إليه بتلك الصحف فأرسل بها إليه عبد الله بن عمر، فأمر بها مروان فشُققت فقال مروان: إنما فعلتُ هـذا لأن ما فيها قد كُتب وحُفظ بالمصحف، فخشيتُ إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هـذه الصحف مرتاب، أو يقول إنه قد كان شيء منها لم يُكتَب) (ص 32)
وبتدمير مصحف حفصة ومصحف ابن مسعود بالكوفة تكون مصادر القرآن الأساسية قد ضاعت، بدون الاحتفاظ بنسخ منها ولكن في القرنين الثاني والثالث الهجريين، ويُطلق عليها (فترة الاجتهاد) كان علماء الإسلام يفضّلون قراءة على قراءة أخرى من قراءات الصحابة ولكن الأصوليين لم يقبلوا هـذا، حتى أن العالِم البغدادي المشهور (ابن شَنَبُوذ) (245-328 هـ) أُجبر أن ينكر علناً قراءاته من النسخ القديمة إذ يروي الطبري في تاريخه (ج11 ص 291 دار المعارف، القاهرة، دت) أن الوزير ابن مقلة أحضر ابن شنبوذ في شهر صفر عام 323 هـ وقال له: (بلغني أنك تقرأ حروفاً في القرآن بخلاف ما في المصحف، وكان ذلك بحضرة ابن مجاهد وأهل القرآن فاعترف بقراءة ما عُزي إليه من الحروف، ومنها (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ ... فَامضوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) (سورة الجمعة آية 62:9 ، وهي في المصحف الحالي (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله)) وأغلظ ابن شنبوذ للوزير والجماعة، ونصر ما عُزي إليه ثم استُتيب عن قراءة الحروف، فتاب منها).
وإن كان د بوكاي يكرر أن المسيحيين غيّروا وحرَّفوا إنجيلهم، فماذا يقول في ما عمله عثمان ولجنته وما عمله مروان؟ ألم يغيّروا في القرآن ما شاءوا أن يغيروا؟ وهذا عين ما قالته حميدة بنت أبي أويس، قالت: (قرأ عليَّ أبي وهو ابن ثمانين في مصحف عائشة (إن الله وملائكته يصلّون على النبي يا أيها الذين آمَنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً، وعلى الذين يصلّون في الصفوف الأولى) وذلك قبل أن يغيّر عثمان المصحف) (القرآن المجيد، دروزة، ص 58).
لقد قدمنا رسماً بيانياً (رقم 1) عن جمع البشائر، وسنفعل الشيء نفسه مع القرآن في الرسم البياني (رقم 2) لنشرح مصادر ونقل القرآن كما كشفته لنا الأحاديث المذكورة أعلاه.
رسم بياني 2 - جمع القرآن (قريباًً سنضيفه باللغة العربية)
وكان يمكن أن يكون هـذا الرسم البياني أكثر تعقيداً لو أضفنا مصحف أبي موسى الأشعري الذي كان مستخدماً في البصرة ولكن ما قدمناه يرينا التشابه بين جمع الإنجيل وجمع القرآن.
ونعود نوجّه السؤال: كيف تعرف إن كان القرآن الذي بين يديك الآن يماثل تماماً القرآن الذي نزل على محمد؟
خاتمة
بالرغم من إحراق عثمان للمصاحف يؤمن المسلمون أن لا اختلاف يُذكر قد جرى لعقائد القرآن الأساسية فكيف يقول أحدٌ إن تغييراً قد حدث للعقائد الإنجيلية الأساسية؟
وإن كان القرآن الذي جاء بعد الإنجيل بستمئة سنة يختلف مع الإنجيل، فعلى المسلمين أن يجدوا حلاً آخر للمشكلة غير اتهام الإنجيل بالتحريف لقد افترضوا أساساً أن الإنجيل تحرف، دون أن يقدموا برهاناً واحداً على ذلك.
ويتفق المسيحيون مع المسلمين على ما جاء في سورة يونس 64 (لا تبديل لكلمات الله).
31. Tacitus, TACITUS ANNALS, XV
32. F F Bruce, THE NEW TESTAMENT DOCUMENTS, Intervarsity Press, Downers Grove, Ill, , p
33. William Albright, RECENT DISCOVERIES IN BIBLE LANDS, Funk and Wagnalls, New York, , p
34. A T Robinson, RELATING THE NEW TESTAMENT, London, SCM Press,
35. Bruce M Metzger, THE TEXT OF THE NEW TESTAMENT, Oxford University Press, New York,