2-إحراق عثمان للمصاحف الأخرى.
بعد تسعة عشر سنة من وفاة محمد تقلد عثمان كرسي الخلافة بعد أبي بكر و عمر فكان لهذا الحدث أهمية بالغة بالنسبة لتطور النص القرآني. كان حديفة بن اليمان يقود غزوة شمال بلاد الشام و كان جزء من جيشه متكَوِّنا من أهل الشام وجزء آخر من أهل العراق. فلم يمر وقت طويل حتى اختلف الفريقان حول طريقة قراءة القرآن. بعض هؤلاء قدم من دمشق و حمص و البعض الآخر من الكوفة و البصرة و في كل واحدة من هاته المناطق كان سائدا مصحف معين. على سبيل المثال نذكر أن أصحاب الكوفة كانوا يتُّبِعون مصحف عبد الله بن مسعود في حين كان أهل الشام يعملون بمصحف أبي بن كعب. أقلق هذا الأمر حذيفة فتشاور بشأنه مع سعيد بن العاص و أبلغ على إثر ذلك الخليفة عثمان. جاء في حديث البخاري ما يلي :
" حدثنا موسى حدثنا إبراهيم حدثنا ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشأم في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق" (صحيح البخاري‚ كتاب فضائل القرآن رقم 4604)
هذه أول مرة نجد فيها تلميحا لوجود مصاحف غير مصحف زيد بن ثابت في نصوص الحديث المعترف بها رسميا. يشير الحديث كذلك إلى أن هذه المصاحف كانت معروفة و مقبولة لدى المسلمين ربما أكثر من مصحف زيد الذي كان آنذاك بحوزة حفصة. كانت بعض النصوص مجرد مقاطع من القرآن في حين كانت نصوص أخرى موجودة على شكل مصاحف قرآنية كاملة.
ما الذي دفع عثمان إلى تعميم مصحف زيد في جميع الأمصار و إحراق باقي المصاحف؟ هل السبب هو كون هاته المصاحف كانت تتضمن أخطاء بخلاف مصحف زيد الذي كان نصا كاملا لا غبار عليه؟ ليس في الروايات القديمة ما يوحي بهذا. لمعرفة الظروف و الملابسات التي جعلت عثمان يقرر فرض مصحف زيد بن ثابت على جميع الأقطار التي كانت تحت إمرته نورد هذه الرواية التي جاءت في كتاب المصاحف لبن أبي داوود:
قال علي بن أبي طالب "ياأيها الناس لا تقولوا في عثمان و لا تقولوا له إلا خيرا في المصاحف و إحراق المصاحف‚ فوالله ما فعل الذي فعل إلا عن ملأ منا جميعا ‚ فقال ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك و هذا كاد أن يكون كفرا. فقلنا فما ترى؟ قال نرى أن نجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة و لا يكون اختلاف‚ قلنا فنعم ما رأيت. قال فقيل أي الناس أفصح و أي الناس أقرأ؟ قالوا أفصح الناس سعيد بن العاص و أقرأهم زيد بن ثابت فقال فليكتب أحدهما و ليملي الآخر ففعلا و جمع النلس على مصحف واحد" (كتاب المصاحف‚ ص 22)
تنص هذه الرواية بوضوح على أن السبب الذي دفع عثمان إلى اتخاد قراره هو رغبته في فرض إجماع حول نص قرآني واحد. لم يكن قرار إحرق المصاحف الأخرى كونها غير جديرة بالثقة بل كان الدافع هو الرغبة في تجنب الشقاق بين المسلمين حول القرآن. يقبل ديزاي فكرة أن هذه المصاحف كانت كاملة و أصيلة على السواء لكن بالمقابل يزعم أن قرار الإحراق كان مبرره فقط الرغبة في تجنب الإختلاف في قراءة النص. يظن هذا الباحث أن النص الزيدي -نسبة لزيد بن تابث- كان يُعَدُّ نصا رسميا و أن غيره من المصاحف جُمِع بمبادرات شخصية فقط. أما اختلاف القرءات فهو لا يعتبره دليلا على عدم صلاحية هاته المصاحف بل هو حسب ظنه خير مثال على أن القرآن نزل على سبعة أحرف كما ورد في الحديث (انظر فصل 5). يقول ديزاي : "أبسط طريقة لضمان هيمنة مصحف عثمان هو إحراق المصاحف الأخرى" (نفس المرجع‚ ص 33)
لقد كان هذا هو الدافع الحقيقي لإحراق المصاحف لأن عثمان كان يريد توحيد المسلمين على نص قرآني واحد وهذا هو السبب الذي جعل حديفة بن اليمان يشعره بضرورة الأمر لأنه هو الذي كان وراء ذلك كما ذكر بن أبي داود. (كتاب المصاحف‚ ص 35) يضيف ديزاي : "الغرض من إحراق المصاحف و الإحتفاظ بمصحف زيد كان الغرض منه تجنب الإختلاف في قراءة القرآن" (نفس المرجع‚ ص 33) المشروع الذي قام به أبو بكر اقتصر على جمع القرآن من مصادر متعددة في حين حاول عثمان فرض هيمنة هذا المصحف على المسلمين على حساب المصاحف الأخرى التي كانت تكتسي يوما بعد يوم مكانة كبيرة في الأمصار.
لكن ما الدافع لاختيار مصحف زيد ليكون هو المصحف الرسمي؟
الرواية التي قدمنا سالفا تبرز المصداقية التي كان يتمتع بها زيد في مجال القرآن. لذلك لا يمكن نفي أن مصحفه كان على العموم خاليا من التحريف. صحيح أن هذا المصحف تم جمعه تحت الرعاية الرسمية للخليفة أبي بكر لكن هذا لا يدل على أنه أصبح بذلك نصا رسميا أو لكون المصاحف الأخرى تم جمعها بمبادرات شخصية اتخذها بعض الصحابة (نفس المرجع‚ ص 32). إنَّ كون هذا المصحف أُخْفِي مباشرة بعد جمعه و بقي قابعا في الظل لمدة معينة و لم يتم إشهاره لدليل كاف على أنه لم يكن ليعتبر نصا رسميا.
على عكس المصاحف الأخرى التي كانت تكتسب شهرة كبيرة و إقبالا بالغا في مختلف الأمصار كان مصحف زيد غير معروف لدى المسلمين في هاته المناطق و لهذا السبب لم يكن ليعتبر مصحفا منافسا. لقد كانت الغاية الحقيقية من فرض مصحف زيد هو القضاء على السلطة السياسية التي كان يتمتع بها بعض قراء القرآن في الأمصار التي كان عثمان يفتقد فيها شيئا من مصداقيته بسبب السياسة التي كان ينهجها حيث أنه كان يعين كعمال أقرباءه من بني أمية أعداء محمد على حساب الصحابة الذين ظلوا أوفياء لمحمد طيلة حياتهم. يمكننا أن نستنتج مما سبق أن مصحف زيد لم يتم اختياره لأنه كان يتميز على المصاحف الأخرى من حيث الكمال و لكن لأنه كان يخدم الأهذاف السياسية التي كان يبتغيها عثمان من توحيد نص القرآن. لقد أخرج عثمان هذا المصحف من الظل و جعل منه مصحفا رسميا لكا المسلمين بعدما بقي لمدة طويلة في الخفاء. إجراء من هذا القبيل لم يحاول لا أبو بكر و لا عمر خلال مدتي خلافتيهما أن يقوما به. لا يجوز إعطاء مصحف زيد أي امتياز مقارنة مع المصاحف الأخرى رغم ما كان يعرف عن جامعه من دراية بالقرآن لأن الإطار الرسمي الذي جمع فيه هذا المصحف تجلى فقط في كون الخليفة هو الذي أعطى الضوء الأخضر لجمعه. فلو كان محمد نفسه هو الذي رخَّص و أشرف على عملية جمع القرآن لصح نعت المصحف بالرسمي. لكن في الحالة التي تهمنا جاء المصحف كنتيجة لمبادرة من الخليفة أبي بكر‚ حيث حاول بإخلاص أن يجمع نصا أقرب ما يكون للكمال على قدر مستطاعه تاركا لنفسه حرية اختيار ما وجب إدخاله وما وجب إسقاطه.
مرة أخرى يجب أن لا ننسى أن أبا بكر لم يحاول فرض مصحفه بعد جمعه كما فعل عثمان لاحقا لذلك لا يمكن النظر إليه على أساس أنه كان نصا رسميا قبل زمن عثمان كما يزعم ديزاي و آخرون.
مرة أخرى يجب أن لا ننسى أن أبا بكر لم يحاول فرض مصحفه بعد جمعه كما فعل عثمان لاحقا لذلك لا يمكن النظر إليه على أساس أنه كان نصا رسميا قبل زمن عثمان كما يزعم ديزاي و آخرون.
ما قام به عثمان كان فعلا قاسيا و هذا هو أقل ما يمكن قوله في هذا الصدد حيث أنه لم ينج من قرار الإحراق أي مصحف من تلك التي كانت متداولة آنذاك. لا مفر إذن من الإعتراف بأن هذا الخليفة لم يكن يملك بديلا غير هذا نظرا لكون الفروق كانت شاسعة بخصوص طريقة قراءة القرآن. كون لا أحد من المصاحف تمكن من النجاة من الإحراق يُظهر بجلاء أنه لم يكن هناك توافق كامل فيما بينها. لقد كانت هنالك بالفعل تعارضات كبيرة بين هاته النصوص وجب بسببها اتخاد قرار حازم بتدميرها جميعا و الإحتفاظ بمصحف معين ألا و هو مصحف زيد. لا يمكن للإنسان أن يعتقد أن النص العثماني الذي ظل في الخفاء لمدة معينة أصبح النص المثالي في عشية و ضحاها و أنه كلما ظهر اختلاف بينه و باقي المصاحف وجب نعت هذه الأخيرة بالخطأ. إن الإختباء تحت هذا القناع من أجل إخراج مصحف عثمان من إشكالية الإختلافات القرائية لا يمكن قبوله إذا اعتُبِرت المسألة بقدر كاف من الموضوعية. لم يكن مصحف زيد إلا واحدا من عدد من المصاحف التي جمعت من قبل الصحابة و كانت تختلف فيما بينها بخصوص طريقة قراءتها. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يميزه بالنسبة إليها هو كونه مُسْتَمَدٌ من مصحف جُمِعَ بين يدي أبي بكر. كون هذا المصحف لم يكن مشهورا عند عامة المسلمين جعله يبقى خارج نطاق النقاشات التي أُثيرت حول المصاحف الأخرى.
زيادة على هذا لم يكن مصحفا رسميا كما رأينا بل لم يكن سوى نص قام شخص واحد بجمعه ألا و هو زيد بن ثابت بنفس الطريقة التي جمع بها عبد الله بن مسعود و الصحابة الآخرون مصاحفهم. لم يكن هذا أبدا النص الذي أَذِن به محمد شخصيا بل لم يكن إلا نصا مماثلا له و واحد من بين عدة نصوص مختلفة كانت منتشرة آنذاك. أُعْطِيت صفة الرسمية لهذا المصحف باختيار أحادي الجانب من الخليفة عثمان حيث أراد له هذا الأخير أن يكون مصحف كل المسلمين بقرار انفرادي.
يَعي العلماء المسلمون المعاصرون‚ الذين يزعمون بتهور أن نص القرآن الذي بين أيدينا يتميز بكمال مطلق‚ يعون كل الوعي أن وجود قراءات مختلفة للنصوص الأولى للقرآن لا محالة ستجعل مزاعمهم مجرد هراء لذلك نجدهم يقولون إن الإختلافات لم تكن في النصوص نفسها و إنما في طريقة التلفظ بها فقط.
عبر كوكب الصديق عن هذا التصور كما يلي : "لم يهذف عثمان إلى فرض مصحف معين على حساب المصاحف الأخرى لأنه لم يكن هناك إلا مصحف واحد منذ البداية. ما أراد عثمان فعله هو فقط توحيد المسلمين على قراءة معينة لنص القرآن مع التأكيد على أن هذه القراءة يجب بالضرورة أن تبقى مطابقة للهجة قريش التي نزل بها القرآن. ما كان يشغل باله هو اختلاف أهل الشام مع أهل العراق في طريقة تلاوة القرآن" (مجلة البلاغ‚ المرجع السابق‚ ص 2). ما يُزْعَم هنا هو إن كانت هنالك اختلافات بين القراءات فإن مرجعها هو فقط طريقة "تلفظ" أو "ترتيل" النص القرآني. هذا النوع من الإستدلال يستند كليا إلى مقدمات فاسدة لأن التلاوة و التلفظ و الترتيل ليست لها علاقة سوى بالنص المنطوق و لا يمكن للإختلافات بخصوصها أن تظهر في النصوص المكتوبة لكن عثمان أمر بإتلاف نصوص مكتوبة. يجب كذلك أن لا ننسى أنه في الفترة التي كان يُجمَع فيها القرآن على شكل مصاحف لم تكن الكتابة العربية مشكولة و لا الحروف منقطة. لذلك فالإختلافات لم تكن لتظهر في النصوص المكتوبة. فلمذا إذن قام عثمان بحرقها؟ هناك جواب منطقي واحد لهذا السؤال ألا و هو أن الإختلافات كانت في النصوص ذاتها و ليس فقط في طريقة نطقها و سنحاول في الأجزاء التالية أن نُظْهِر إلى أي مدى وصلت هذه الإختلافات النصية. قام عثمان بإرغام المسلمين على قبول مصحف معين على حساب مصاحف أخرى و لن يكون لقراره هذا أي مبرر إذا كانت هذه النصوص لا تختلف فيما بينها إلا في نقاط بسيطة و تافهة تخص التلاوة فقط لأن هذا القرار المتشدد لا يمكن يأتي إلا نتيجة لوجود اختلافات جوهرية عديدة بين النصوص المكتوبة.
يجب على المسلمين أن يفكروا و يتمعنوا بجدية فيما قام به عثمان بن عفان. لقد كان القرآن يعتبر و لا زال يعتبر كلام الله المنزل على رسوله محمد أما المصاحف فقد كتبت من طرف صحابة محمد المقربون. ما القيمة التي كانت ستعطى للمصاحف التي أحرقت بأمر من عثمان لو بقيت حتى يومنا هذا؟ حاول الصحابة الذين كانوا يعتبرون بشهادة الأحاديث الصحيحة من ذوي الدراية العالية بالقرآن (عبد الله بن مسعود‚ أبي بن كعب.. ) أن يكتبوا المصاحف هاته بأيديهم و بذلوا في ذلك كل جهدهم لكي تكون أقرب ما يمكن إلى الكمال. هذه هي المصاحف التي أمر عثمان إحراقها‚ مصاحف جمعها صحابة أجلاء لا غبار عليهم. فإذا لم تكن فيما بينها اختلافات عميقة فلماذا قرر عثمان إحراق ما كان عزيزا على كل المسلمين يعتبرونه كلام الله المنزل على رسوله؟ لا يمكن قبول الطريقة التي يحاول بها علماء الإسلام المعاصرون تبرير ما قام به عثمان و على الخصوص إذا افترضنا كما يزعم الصديق أنه لم تكن هنالك أبدا اختلافات بين النصوص. ماذا سيعتقد المسلمون لو قام أحد في عصرنا هذا بإحراق مصاحف عزيزة على قلوبهم؟ ليس هناك إلا تفسير واحد لكل ما جرى ألا و هو وجود اختلافات نصية عميقة بين المصاحف استوجب معها حل واحد و هو الإحتفاظ بأحدها و تنحية المصاحف الأخرى.
في الوقت الذي نجد فيه أن كوكب الصديق يعلن مقولته "نص واحد لا اختلاف فيه" زاعما أنه "لم يكن هنالك أكثر من نص واحد" (بحروف غليظة) نرى أن مولانا ديزاي يتناقض معه حين يعترف بوجود اختلافات في النصوص الأولى تجلى بعضها في "تغيرات نصية" (المرجع السابق‚ ص 22) و كذلك حين يعترف بأن بعض المصاحف لم تكن مماثلة للمصحف الذي قام زيد بن ثابت بجمعه (ص 23). لكن ديزاي يحاول أن يثبت أن نص القرآن ذو كمال مطلق بزعمه أن الإختلافات التي كانت موجودة بين النصوص كانت مشروعة و هي ما يُدعى "الأحرف السبع". يبرر ديزاي ضرورة توحيد المصاحف القرآنية بكون هذه الأحرف لم تكن معروفة عند كل المسلمين لذلك يكون قد وجب الإبقاء على نص واحد. يقول ديزاي : "القرار الذي اتخده عثمان بإحراق مصاحف مشروعة كانت تمثل ترجمة وفية للقرآن المجيد مبرره الصراعات التي كانت قائمة آنذاك في المناطق التي تم فتحها بين مسلمين حديثي العهد بالقرآن لم تكن لهم دراية بكل أشكال القراءات المشروعة..فكان من الصعب جدا تدقيق كل النسخ القرآنية لدرجة وجب معها كحل وحيد تنحية جميع هاته النسخ من أجل الحفاظ على مصحف واحد يجتمع عليه كل المسلمين" (ص 32-33)
إذن أصبح من الملائم تنحية ستة قراءات مشروعة لفائدة قراءة واحدة فقط لأن الخليفة رأى أنه من الصعب قراءة المصاحف الأخرى بالرغم من أنه كان بالإمكان تصحيح و تدوين كل هاته المصاحف كما حصل مع مصحف زيد. لا يمكن للمرء إلا أن يستغرب من الطريقة التي يحاول بها بعض المسلمين تبرير ما قام به عثمان من إحراق مصاحف كانت لها قيمة عالية في نفوس المسلمين دون أن يخدش هذا التفكير أحاسيسهم. إنه لمن المشوق معرفة ما سيكون رد مولانا لو قام أحد في عصرنا الحاضر بإحراق أجزاء من القرآن تحت نفس الذريعة التي قدمها في النص المذكور أو لو قرر أحدهم تصوير شريط حول ما قام به عثمان.
قرار إحراق مصاحف قرآنية كالذي اتخده عثمان لا يمكن تفسيره بهذا الإستخفاف لذلك وجب على الباحثين المسلمين أن يُقَيِّموا بجدية هذه المسألة. سَتُتاح لنا الفرصة لكي نرى أن رد فعل عبد الله بن مسعود إثر سماعه قرار عثمان كان جد قوي. كذلك كان هذا القرار من بين الأسباب التي دفعت بعض الصحابة إلى إعلان معارضتهم لعثمان لأنه "محا كتاب الله عز و جل" (بن أبي داود‚ كتاب المصاحف‚ ص 36). الكلام هنا خَصَّ كتاب الله بعينه و ليس فقط النصوص التي كانت موجودة قبل قرار الإحراق و الغرض منه إبراز المعارضة الشديدة لهؤلاء الصحابة لقرار الإحراق.
سنرى في الفصول القادمة إلى أي حد بلغت الإختلافات في طرق قراءة القرآن و كذلك مدى اختلاف مصاحف بن مسعود و أبي بن كعب و زيد بن ثابت و أبي موسى و آخرون. قبل هذا يجب أن نستعرض بإيجاز بعض التطورات المهمة التي واكبت قرار عثمان بجعل مصحف زيد المصحف الرسمي و الوحيد للأمة الإسلامية.