2-رد فعل بن مسعود على قرار عثمان.
لما أصدر عثمان أمره بإحراق المصاحف للإحتفاظ بمصحف زيد بن ثابت رفض عبد الله بن مسعود تسليم النسخة التي كانت بحوزته. يتحدث ديزاي بصراحة عن "رفض حضرة بن مسعود في البداية تسليم نسخته" (Quran unimpeachable, p.44) لكن الصديق يريدنا أن نعتقد أن لا رفض صدر عن هذا الصحابي المتميز. يقول في موضع ما من مقاله "ليست هنالك إشارة إلى أنه عارض مصحف حفصة خلال حكم عمر" (البلاغ المرجع السابق ص 1). لكن لماذا كان سيعارض مصحف زيد في ذلك الوقت؟ كان مصحفه آنذاك منتشرا بين أهل الكوفة في الوقت ذاته الذي كان فيه مصحف زيد قابعا في الخفاء دون أن يكون لأحد أية نية لجعله مصحف الأمة الإسلامية.
لم يشعر بن مسعود أن مصحفه يتهدده الخطر إلا حين خرج مصحف زيد إلى الواجهة و أُعلِنَ مصحفا موحدا. لذلك رفض بن مسعود في الحين تسليم مصحفه لأجل إحراقه. ذكر بن الأثير في الكامل (3.86-87) أن أهل الكوفة استمروا في تداول مصحف بن مسعود حتى بعد أن بلغهم مصحف عثمان. إنه لمن الواضح بالنسبة لكل من يبحث بشيء من الموضوعية في هذه المسألة أن الدراية الواسعة لبن مسعود بمجال القرآن و التي شَهِدَ عليها محمد نفسه تعطي لمصحفه مكانة موازية على الأقل لتلك التي كان يتمتع بها مصحف زيد.
بما أن هناك أدلة ثابتة على وجود عدد من الإختلافات بين هذه المصحفين و بما أن مصحف زيد أصبح النص الرسمي فقط بأمر أحادي الجانب من الخليفة عثمان و ليس لسبب آخر قد يعطيه مشروعية ما فإنه حقا لمن الغريب أن نجد العلماء المسلمين يحاولون التقليل من أهمية مصحف بن مسعود.
يزعم ديزاي أن "نسخة بن مسعود كانت تحوي ملاحظاته الخاصة. نسخته هذه كانت لإستعمال الخاص و ليست موجهة لكافة الأمة" (ص 45). صاحبنا هذا لا يعطي أي دليل على مزاعمه. من بين النواقص التي تميز كتيب ديزاي الغياب شبه التام لأدلة مستوحات من مراجع أصيلة بخصوص التفسيرات التي يحاول أن يقدمها للأحداث. لهذا السبب لا يتيح لدارس كتيبه أن يتحقق من صحة ادعاءاته.
في الواقع كان معروفا أن مصحف بن مسعود انتشر في المنطقة التي كان يقطن بها أي الكوفة و ما جاورها في الوقت الذي كان فيه مصحف أبي بن كعب سائدا في الشام (كتلب المصاحف بن أبي داود ص 13)
يحاول أحمد فون دنفر (Ahmad Von Denffer) بطريقة مماثلة أن يقلل من أهمية مصحف أبي بن كعب قائلا إنه "مصحف للإستعمال الشخصي أو بعبارة أخرى مذكرته الخاصة" مضيفا بخصوص هذه المصاحف أن "هذه المذكرات الخاصة أصبحت متجاوزة فتمت تنحيتها أخيرا" (علوم القرآن ص 49). من الصعب فهم كيف يمكن اعتبار مصاحف كاملة جُمِعَت بعناية فائقة و استعملت في مناطق عديدة ك "مذكرات خاصة" و كيف أمكن أن تصبح متجاوَزة في وقت من الأوقات.
يتشبت العلماء المسلمون بهذه الإستدلالات الغريبة فقط لأنهم مصممون على الدفاع بأي ثمن عن عصمة القرآن الذي هو بين أيدينا اليوم من أوله إلى آخره. لكونهم يعرفون جيدا أن هذا النص ما هو إلا نتاج عملية قام بها رجل معين (زيد بن ثابت) نراهم يحاولون استعمال أسلوب المراوغة كلما تعلق الأمر بمسألة وجود مصاحف غير المصحف العثماني كانت تختلف معه في نقاط غير قليلة. لقد أُريد لمصحف زيد أن يصبح "المصحف الرسمي" مباشرة بعد الإنتهاء من جمعه و نُقِضَت المصاحف الأخرى تحت ذريعة كونها "مذكرات خاصة" لأصحابها وجب إحراقها لكونها تختلف فيما بينها ناسين في ذات الوقت أن هذه المصاحف كانت أيضا تختلف مع مصحف زيد.
هناك أدلة قوية تُظهر لنا السبب الذي جعل عبد الله بن مسعود يرفض في البداية تسليم مصحفه لكي يتم إحراقه. يزعم ديزاي أن السبب هو تعلقه الوجداني بهذا المصحف (ص 45) (1) أما الصديق فيقول ببساطة إنه لم يكن اختلاف بين مصحفه و الذي جمع زيد (2). في واقع الأمر كان رد فعل بن مسعود إزاء قرار عثمان راجع بالأساس لكونه اعتبر مصحفه أحسن من مصحف زيد و أكثر موثوقية منه. قبل أن يقوم حذيفة بن اليمان بإثارة انتباه عثمان لضرورة توحيد المسلمين بالقوة حول مصحف زيد‚ دارت مناقشة حادة بينه و بين عبد الله بن مسعود حين طلب منه أن تُنَحَّى القراءات التي كانت شائعة آنذاك في سائر الأقطار الإسلامية :
"قال حذيفة أهل البصرة يقرءون قراءة أبي موسى و أهل الكوفة يقرءون قراءة عبد الله أما و الله أن لو قد أتيت أمير المؤمنين لأمرته بغرق هذه المصاحف فقال عبد الله إذاً تغرق في غير ماء (3)" (كتاب المصاحف ص 14)
الكتاب المعاصرون من أمثال الصديق يؤكدون على أن الإختلافات بين قراءات الصحابة كانت على مستوى اللفظ فقط بالرغم من أن عكس هذا يتبين من خلال الرواية السابقة من كتاب المصاحف حيث أن حذيفة كان يتحدث عن لا شيء غير تنحية المصاحف التي كتبها بن مسعود و الصحابة الآخرون (لا يُعقل أن يتم إغراق عبارات لفظية) و هذا الإقتراح هو بالذات ما جعل بن مسعود يثور غيضا و يدل على أن الإختلافات القرائية كانت في النصوص المكتوبة ذاتها. هناك روايات أخرى مفادها أن بن مسعود كان يعتبر زيد كشخص غير ذي معرفة كافية بالقرآن و لذلك فمصحف الأول لا يمكن أن يكون أقل شأنا من مصحف الثاني. دخل بن مسعود في الإسلام قبل أن يولد زيد بن ثابت و لذلك استمد خبرته من كونه كان مقربا من محمد طيلة سنوات طوال قبل أن يستطيع زيد دخول الإسلام بعد هجرة محمد للمدينة:
"قال محمد بن معمر البحراني عن يحيى بن حماد قال حدثنا أبو عوانة عن إسماعيل بن سالم عن أبي سعيد الأزدي قال سمعت عبد الله بن مسعود يقول أقرأني رسول الله صلى الله عليه و سلم سبعين سورة أحكمتها قبل أن يسلم زيد بن ثابت" (كتاب المصاحف ص 17)
جاء في الطبقات الكبرى لبن سعد ما يلي :
"أخبرنا عفان بن مسلم أخبرنا عبد الواحد بن زياد أخبرنا سليمان الأعمش عن شقيق بن سلمة قال خطبنا عبد الله بن مسعود حين أُمِر بالمصاحف ما أُمِر (4) قال فذكر الغلول فقال إنه من يغل يأتي بما غل يوم القيامة فغلوا المصاحف فلأن أقرأ على قراءة من أُحِبُّ أَحبُّ إلي من أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت فو الذي لا إله غيره لقد أخذت من في رسول الله بضعا و سبعين سورة و زيد بن ثابت غلام له ذؤابتان يلعب مع الغلمان" (كتاب الطبقات الكبرى بن سعد المجلد الثاني ص 556 ) (5) موقع الوراق
على ضوء كل هاته الروايات التي يجب أخذها بعين الإعتبار نرى أن التفسيرات التَّمَلُصِيَّة التي يقدمها لنا الكتاب الإسلاميون المعاصرون لا يمكن قبولها. من البَيِّن أن عبد الله بن مسعود قاوم قرار عثمان ليس لأسباب ذاتية كما يريدنا ديزاي أن نعتقد بل لأنه كان يشعر في قرارة نفسه أن مصحفه أحسن من مصحف زيد و أكثر موثوقية منه لأنه أخذه مباشرة عن محمد. هذا الإستنتاج الطبيعي لا يمكن أن يتهرب منه أي دارس موضوعي لتاريخ جمع القرآن.
من الواضح كذلك أن الفروق التي كانت بين النصوص لم تكن بالتأكيد تهم اللفظ فقط بل كذلك الكتابة و المحتوى. سيظهر لنا بعد تحليل بعض من هذه القراءات إلى أي مدى بلغت هذه الفروق.
(1) {لا يمكن فهم السبب الذي سيجعل هذا الصحابي الجليل يتعلق بمصحف خاطىء لا يحوي كلام الله؟}
(2) {ما ضرورة إحراقه إذن؟}
(3) {ربما يعني نار جهنم}
(4) {يعني أمر عثمان بإحراق جميع المصاحف ما عدا مصحف زيد}
(5) {ذُكِر كذلك في كتلب المصاحف لبن أبي داود ص 16}